رواية مستوحاة من يوم عاشورائي في النبطية

بطل عملية النبطية في عاشوراء الشهيد الشيوعي سهيل حمورة
بقلم الأدبية نسرين رجب
وفي اليوم العاشر*..
بعد ليلةٍ طويلةٍ من الأرق استيقظتُ، كانت ضيعتي ميس الجبل في الصباح الباكر من 16 تشرين الأول 1983، تحتفي باليوم العاشر، “ذكرى كربلاء”. أُمي ونساء الضيعة يتعاونّ على تحضير الهريسة التي تم نقع قمحها منذ ليلة أمس في الحقل المجاور لساحة المنزل. الكثير من سُكان البلدة ذهبوا إلى النبطية، التي يتوافد إليها سكان القرى المحيطة للاحتفاء بهذه الذكرى.
قبل مغادرة البيت وقفتُ على المصطبة، توقّفت أمي عن تحريك الهريسة في المَطبخيّة (القِدر)، وأعطت الملعقة الخشب الطويلة لجارتنا أمّ إلياس، نظرَت في وجهي مليًّا، كانت عيناها ممتلئَتيْن بدموعٍ لم تنزل، لعلّها من دخان الموقدة (هكذا فكّرت)، اقترَبتْ مني وسألتني بصوتها الدافئ، وهي تمسح يديها بالمئزر المشدود حول خصرها:
_ لوين رايح؟
حرصتُ على إخفاء توتري، تظاهرتُ بأنني أردّ تحيّة الصّباح على الجارات، لوّحتُ لهنّ: عوافي، مأجورين إن شاء الله.
نظرتُ إليها بحنان، وعينايا تتأملان تجاعيدها الصغيرة التي راحت تحفرُ بلطفٍ في وجهها الطريّ الأبيض، قلتُ لها بصوتٍ هادئ وأنا أضعُ يدي على كتِفها: “رايح عالنبطية مع الشباب”. أومأت رأسها كعادتها عندما لا أُخبرها كامل القصة، غمرني شعورٌ شديدٌ أن أضمٌها وأشمُّ رائِحتها، ربّما هي المرّة الأخيرة من يعلم؟ ارتميتُ على صدرها ودفنتُ وجهي في شالِها الأبيض الذي تعبقُ رائحته بكلّ ما يجري في الحقل، كانت تربت على كتفي بيديها المتشققتين من جهدِ الأيّام، وتقول لي: “تقبرني يمي”، انتشلتُ جسدي من بين ذراعيها، نظرتُ بعيدًا إلى الجارات اللواتي كنً يتحادثن، ، ابتسمتُ لها وقلت بصوت حاسِم: “بتوصيني بشي”.
قبّلت كتفي ويدها تشدّ على يدي: “الله ييسر أمرك يا سهيل”.
كان التجمّع في ساحة الضيعة، حيث يتجمهر الكثير من النّاس من مختلفِ الأعمار في انتظار سيّارات الأجرة والباص لنقلهم إلى النبطية، كبار السن، شبان وفتيان، شابات ونساء.
لوّح لي كمال سائق التاكسي بيده وأشار لي أنّ هناك مكانًا لراكبٍ واحد، أسرعتُ الخُطى وصعدت في المقعد الخلفي للسيارة حيث جلس شابان يرتديان أكفانا بيضاء للمشاركة في ضرب الحيدر، يتجادلان بحماسة حول عدد الشطب اللاتي سيُحدثونها في رأسيهما! وبالقرب من مقعد السائق جلست صبية بكنزة حمراء، والحاج أبو اسماعيل.
بادرنا كمال بالقول أنّه لن يأخذ منا أجرَة اليوم على حبّ الحسين، رددنا جميعنا بنبرات متفاوتة: “عظّم الله أجرك يا كمال”.
رافقنا عنين صوت طائرة الهليكوبتر وهي تحلّق في الجو، قضينا الوقت ونحن نتحادث من كل وادٍ عصا كما يُقال، ومن وقتٍ لآخر كان الحاج أبو اسماعيل يلتفت من المقعد الأماميّ حيث يجلس بالقرب من السائق إلى الخلف حيثُ أجلس والبقيّة، ينظر إليّ ويرفع حاجبيه ويُصدر صوتًا بلسانه وهو يغلق فمه ويفتحه، إلى أن بادرته مبتسمًا وعيناي مصوّبتان على المرآة الأماميّة حيث مجلسه:
_ شو بك يا حج حاسّك مستعجب فيي؟
التفت صوبي مسرعًا، ورفع عصاه التي يتعكز عليها إلى مستوى ذقنه، وقال بلكنته الجنوبية جدًا، وبفمٍ شبه فارغ من الأسنان، وبنبرةٍ مستهزِئَة:
– اي والله مستعجِب، كافر وجايي معنا تحضر عاشورا!؟
وضحك كلّ من في السيّارة، ردّ عليه كمال محاولًا التّخفيف من ثقل قول الحاج :
_ شو هالحكي يا حج، سهيل زينة الشباب، ليش عم تقول عنه هيك؟!
ثبّت يديه على عكّازه، بعدما أعادها إلى وضعها مثبتةً على أرضيّة السيارة وبين قدميه، وقال متبرما:
_ شيوعي يعني كافر (ورفع إحدى يديه يائسًا) الله يهديكن!
لم يكُن في بالي أن أجادله، وبصفاء قلت له: بتمون يا حج..
ورجعنا نتأمل الطريق والوديان المكلّلة بالسنديان، والسرو، عندما وصلنا إلى حاجز للجنود الإسرائيليين، طلبوا منا البطاقات الشخصيّة (الهويّات)، كان يبدو عليهم الضجر من كثرة التفتيش فلم يفتشونا، ربما لأنّه كان بيينا عجوز وصبية فلم يشكوا بشيء، وصلنا إلى النبطيّة وتفرّقنا.
كان الشباب بانتظاري بحسب الخطّة، نظرنا إلى بعضنا، رفيقي فرج الله “أبو دقن طويلة” كما ألقّبه، اقترب مني وأخبرني أنه الآن أتى لتوّه من بيروت، لم أكن أعرف السبب الذي أتى من أجله، سألنا وهو يسلم عليّ وعلى الشاب الذي جاء معي:
_ جاهزين؟
حينها فقط فهمت أنه سيكون معنا، كنّا موزّعين أنا ورفاقي في أكثر من منطقة، لا أحد يعرف مهمّة الآخر، الحفاظ على السريّة من أساسياتنا كي ننجح في مقاومتنا، استدعاني المسؤول منذ بضعة أيّام إلى بيروت، وأعطاني التعليمات لتنفيذ عمليّةٍ في يوم عاشوراء نزلزِل فيها أرض النبطيّة تحت أقدام العدو كما قال، حدّد لي مهمّتي وشرح التفاصيل.
الجو خانق، الكثيرُ من الغبار، وصوت الحاجة حسيبة الحزين يعلو مع كل حدثٍ تنقله المسرحيّة التي تُقام في وسط الساحة: “علاوة يكون موتي قبل يقتلونَك؟”.. كانت تنعي علي الأكبر. أنصار الحسين لباسهم أسود ويرتدون عمامات خضراء، وجيش الأعداء كانوا بثياب ملوّنة.
وقعت عينايَ على صبية ترتدي إيشاربًا أبيض معقودًا عند الرقبة، والغرّة الأمامية تستر قسمًا من جبهتها، تنورتها فوق الكاحل بقليل، وترتدي كنزةً حمراء، وهي تمسح دموعها بطرف الإيشارب، واقفةً بالقرب من الأشخاص المتحلّقين حول الساحة الرمليَّة، أتت ناحيتها صبيّة ثانية بثياب طويلة وداكنة، وبصوت مستنكِر تتطايَر حروفه في الهواء التشرينيّ، ويديْها تلوحان في الهواء:
_ ولي ليه لابسة أحمر، هلق بيفكروك مع الشمر؟
أردتُ أن أضحك، عبرتُ المشهد وأكملت مسيري، ولكن إحساسًا بالاختناق جثم على صدري، واتّخذت منه حجّة للمرور إلى مستشفى النجدة القريب جدًا من الساحة حيث يعمل أخي الدكتور علي، عندما رآني استغرب، كان مشغولا بتقطيب بعض الرؤوس التي كانت تنزف، أخبرته أنني أتيت لمشاهدة مراسِم العاشر، وعن وجع بطني، أعطاني حبتيْ مسكّن، سألني إذا كنت أملك مالاً، قبل أن أجيبه ناولني خمس ليراتٍ، وعندما هممت بالمغادرة، سألني بإلحاح:
– شو القصة يا سهيل؟
التفتُ إليه مبتسمًا، ثم أكملت طريقي…
ثلاثُ دوريّات للعدو الإسرائيليّ متمترِسة في السّاحة، ينظرون يمنةً ويسرى، يراقبون الغادي والآتي، يتهامسون ويتقهقهون، يحملون رشاشاتهم وبنادقهم الحربية، ولفظ الخاء والشين يتنقل بين ملافظهم حتى تظن أنّه لا يوجد في لغتهم سوى هذين الحرفين، ضمرت في نفسي لهم اللعنة، ورحت أدفعُ نفسي دفعًا لأتخلّص من التوتر الذي أصابني.
“يلا يا سهيل يلا”. تحرّكَتْ إحدى الدوريّات متّجهةً إلى الساحة، كان المؤدّي حينها يصرخ بصوت الحسين: “ألا من ناصر ينصرني؟” اقتربتُ على بعدِ أمتار من “الجيب”، أمسك بكتفي شابٌ لم أتمكّن من تبيان ملامحه، همس بصوتٍ صارمٍ وخفيفٍ:
_ نحنا معك!
وبكلّ ما بي من اندفاع خلعتُ قميصي، أخرجتُ القنبلة اليدويّة التي استلمتها من القائد، وصوت المسؤول يهدرُ في أذني:
_ مهمتنا نقتل جنود العدو ونخلّي الناس تتعامل معهم كأنهم كلن الشمر.
رميت القنبلة في وسط الجيب الصهيوني، وأنا أصرخ بكل ما بي من عزم: لبيك يا حسين.
اندلع الحريق في الجيب، هاج الجنود، تحوّلت قهقهاتهم إلى عويل؛ وعنجهيّتهم إلى ذلّ وهريبة، هجم الناس عليهم، وراحوا يرشقون آلياتهم بالحجارة حتى أضرموا النار فيها. و”ضريبي الحيدر” -الذين كان الدم يسيل من رؤوسهم حتى جفّ على وجوههم وغطّاها- شاركوا في الهجوم الثوري وزادوا المشهد على الإسرائيليّ رعبًا، كان الجنود يخرجون من الجيب والنّار تنهش أجسادهم، وفي حمأة الموقف اقتربتُ من أحدهم وحاولت أن آخذ سلاحه، ولكنهم تكاثروا حولي فانسحبت راكضًا، حتى شعرت بسخونةٍ اخترقت صدري ودخلت إلى قلبي، وصوتُ أحد الممثلين يصرخ، ليُنهي المسرحية: الآن استُشهد الحسين..
لمحتُ صاحبة الكنزة الحمراء تحملُ حجارةً وتضرب بها جنديًا صهيونيًا، جاءت الضربة في منتصف رأسه، التقت عيناي بعينيْها ورأيتُ الغضب فيهما، تمنّيت لو تكون معي: “معقول الحوريات بالجنة يكونو متلها؟” ضحكتُ بقلبي المثقوب: “حوريات يا سهيل يا شيوعيّ”..