الاستقواء بالسلاح: حين يصادر فائض القوّة كرامة القانون

الاستقواء بالسلاح: حين يصادر فائض القوّة كرامة القانون

د. علي مراد

الأحد 2025/07/06

في بلدٍ تتداخل فيه السياسة مع العنف، ويُختزل فيه القانون بالاستنساب، بات مشهد السلاح المستباح، والاستقواء بالعنف، حالة متكررة تكاد تُقدّم على أنها أمر عادي، أو حتى حق مكتسب.

لكن الحقيقة أن فائض القوّة، والاستعراض بالسلاح، لم يكونا يومًا حقًا مشروعًا، بل كانا على الدوام جريمة معلنة، لا تمسّ المجتمع وحده، بل تضرب في الصميم مبدأ المساواة بين المواطنين، وتنسف أسس العدالة.

الخطأ يبقى خطأ، مهما عظُمت قوّة المرتكب أو حاول فرض الأمر كواقع. وما من قوة في الأرض تُحوّل الخطأ إلى حق. ومع ذلك، لا يكمن الخطر فقط في ارتكاب الأفعال بحد ذاتها، بل في محاولات ترسيخها كـ”حق طبيعي” أو امتياز جماعي، تُسوّغ عبر خطاب موازين القوى وحتمية التسويات وضرورة الحفاظ على الاستقرار، وتُختزل بحوادث فردية، أو تُخفّف بعبارات استهلاكية من قبيل: ما المشكلة؟ المسألة ليست بهذه الخطورة!

الأخطر أن التكرار والتبرير المتواصلين يصنعان مع الوقت “حقًا مكتسبًا” لأفراد أو لجماعة معيّنة، حتى يصبح كأنه امتياز دائم، لا يجوز الاقتراب منه، ويُفرض على الجميع كأمر واقع غير قابل للتغيير. فالمعضلة الأعمق أن المشكلة لا تقتصر على الأفراد المرتكبين، بل تتصل بمنظومة سياسية واقتصادية ترعى وتغطي وتكرّس هذا السلوك، فيتحول إلى جزء من تركيبة النظام نفسه. وهنا تتحمّل القوى السياسية والحزبية، ومعها شبكات الفساد، المسؤولية الأكبر. فهي من وفّرت لهذه الأفعال الغطاء والحصانة، حتى بات مرتكبوها ينظرون بصدق إلى محاسبتهم كأنها ظلم أو مبالغة، لأنهم نشأوا داخل بيئة جعلتهم يعتقدون أن ما يفعلونه حق مشروع أو ربما واجب.

وفي خضم هذا المشهد المتراكم، تتجدد دوامة التناقضات والمشاعر المتضاربة: من جهة، هناك من يرتكب هذه الأفعال ويشعر بالظلم حين يُحاسب على ما يعتبره حقًا مشروعًا ومكتسبًا. ومن جهة أخرى، هناك من يشعر بمرارة الانهيار الكامل لمبدأ المساواة، مع ما يرافق ذلك من احتقان وغضب اجتماعي وسياسي.

هنا، يصبح السؤال الأهم: ما السبيل لفضّ هذا الاشتباك المعقّد، الذي يتداخل فيه السياسي بالشعوري، والقانوني بالعاطفي؟ وحده القانون هو المعيار الوحيد الذي يستطيع كسر هذه الحلقة المغلقة، لا لأنه مجرد نص مكتوب أو منظومة إجرائية، بل لأنه، في جوهره العميق، المساحة الوحيدة التي يُمكن فيها للأفراد أن يلتقوا على قاعدة مشتركة، بصفتهم متساوين أمام معيار موضوعي أعلى من الجميع.

فالقانون لا يحاكم الناس بصفتهم أفرادًا معزولين ولا بصفتهم أعضاء في جماعات محددة، بل يُعيد تعريفهم أولًا كمواطنين، كذوات مستقلّة، قبل أن ينظر إلى أي روابط أخرى. ففي لحظات التوتر الكبرى، حين يشعر بعض الأفراد بأنهم مظلومون باسم الجماعة، ويشعر آخرون بأنهم مقموعون باسم الامتيازات، يظهر القانون كحاجز يُعيد الجميع إلى نقطة انطلاق واحدة: الفرد، كمواطن متساوٍ مع الجميع، لا كعنصر في تكتل أو فئة.

تكرار الفعل عبر الزمن، وقبول الناس به خضوعًا أو خوفًا أو مراعاةً، لا يمكن أن يحوّل ممارسة غير شرعية إلى عرف مقبول، لأن العُرف، في جوهره، ليس أداة لتبرير انتهاك القانون، بل وسيلة لسدّ فجواته في الحالات التي يكون فيها القانون غائبًا أو صامتًا. العرف لا يمكن أن يكون منافسًا للقانون، ولا بديلًا عنه، ولا يجوز استخدامه لتسويغ الأفعال التي تنتهك جوهر العدالة والمساواة. فحين يُكرّس العرف لتبرير الأفعال غير القانونية، لا نكون أمام عُرفٍ بالمعنى القانوني، بل أمام حالة تواطؤ اجتماعي أو سياسي، تتستّر خلف الزمن والاستمرار.

ومهما طال الزمن، ومهما تعايش الناس مع هذه الممارسات، فإن العرف الذي يتناقض مع القانون يبقى باطلًا من حيث المبدأ، ولا ينتج سوى مزيد من الظلم والتمييز. لذلك، فإن تكرار الفعل بحد ذاته، والاعتياد عليه، لا يضفي عليه شرعية، ولا يحوّله إلى حق مكتسب، ولا يصنع منه عرفًا ملزمًا.

الزمن لا يُشرعن الباطل، بل يُراكم خطره فقط.

وهذا هو جوهر العدالة الحقيقية: أن يعود الإنسان إلى ذاته كفرد متساوٍ، سواء حين يواجه الدولة، أو حين يواجه جماعته، أو حين يجد نفسه ممزقًا بين ولاءاته المتضاربة. فحين يتداخل الشعور الطائفي مع الحقوق الفردية، يصبح القانون وحده القادر على تفكيك هذه التشابكات المعقدة، لا بقوة القمع، بل بسلطة المعيار العادل الوحيد، حيث لا فروق بين فرد وآخر، ولا بين جماعة وأخرى. فالقانون هنا ليس مجرد حل تقني أو قضاء مؤقت، بل هو إعادة تنظيم للوجود الجماعي على أساس الحرية والمساواة معًا، بلا هيمنة ولا استثناءات.

غير أن الأخطر من كل ذلك، هو أننا بفعل القهر وتراكم فائض القوّة، أصبحنا نتعايش مع هذه الممارسات، ونراها شرًا لا بدّ منه، بل نعتبرها أحيانًا “بلاءً أخفّ من بلاء”. وعند هذه النقطة تحديدًا يتجلّى الخطر الأكبر: أن يُنظر إلى وقف هذه الممارسات كأنه انتزاعٌ لحقوق مكتسبة، لا كاستعادة للعدالة. بينما الحقيقة البسيطة والواضحة أن وقف هذه الممارسات لا يعني سوى استعادة المساواة، وإعادة المجتمع إلى سكّة العدالة، والأهم: تحرير الناس من استلاب هذا الفائض، الذي صادر كرامتهم وحقوقهم وحياتهم.

المصدر: المدن

مشاركة هذا الموضوع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!
آخر الأخبار