يبدو أن لبنان سيظلُّ رهينة السلاح إلى أن…

يبدو أن لبنان سيظلُّ رهينة السلاح إلى أن…

د. منى فياض (اللواء)
 
نعيش في لبنان في ظل معادلة غير مسبوقة. الدولة مبدئيا موجودة، لكن السلطة الفعلية ليست بيدها. يدفع المواطن الضرائب، يَنتخب نوابه، فيسنّون القوانين، لكن القرار الحقيقي يُتخذ في مكان آخر، خلف جدران الطوائف والسلاح.

لطالما قيل إن الكيان اللبناني هشّ ومؤقت. لكن بعد قرن على ولادته، لم يعد هذا الطرح مقبولاً. لبنان ليس كياناً مصطنعاً ولا مؤقتاً، إنه وطن نهائي لجميع أبنائه، ولمن آمنوا به وطناً وليس ساحة صراع ولا منصة تصدير أيديولوجيا.

لكن هذا الوطن الصغير محاصر من الداخل، وليس فقط من «عدو خارجي» كما يُشاع. انه محاصر من منظومة تتحكّم به بقوة السلاح، وتفرض خطاباً تعبوياً يلغي فكرة الدولة ويصادر قرارها. هذا السلاح الذي يُبرر نفسه باسم «المقاومة»، لم يعد موجّهاً نحو العدو كما كان، بل تحوّل إلى أداة اللهيمنة السياسية الداخلية، ومصدر تهديد للسلم الأهلي ولبقايا الدولة.

اعتاد باقي اللبنانيون على الاعتقاد إن جمهور «الحزب» موحّد خلف قيادته، لكن الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك. فهذا الجمهور، كما سائر الطوائف، يتكوّن من فئات واسعة متعددة. بعضها عقائدي ملتزم، وبعضها الآخر يخاف او يشكّ، ويبحث عن صوت مختلف. لكن الخوف والولاء الطائفي يكمّم الأفواه.

هم لا يريدون العودة إلى الحرمان والتهميش، لكنهم أيضاً لا يريدون أن يبقوا أسرى مسار غامض يرهن حياتهم ولا يلبّي احتياجاتهم وطموحاتهم. لا يريدون أن يكونوا أدوات في معركة إقليمية، ولا حطباً لحروب غيرهم.
 
إن السلاح غير الشرعي ليس بندقية فقط، بل منظومة كاملة من السيطرة: انه إعلام، وعقيدة، وتخويف، ومال، وخدمات واستثمار في الجروح الطائفية. وكل محاولة لبناء الدولة تصطدم بهذا الجدار. وعلى غرار مقولة: لا صوت يعلو «فوق صوت المعركة»، يقولون لنا: لا قانون يعلو على «قرار المقاومة». ولا قضاء يجرؤ على المحاسبة، ولا الحكومة تملك حقّ الحرب والسلم.
 
ما نعاينه لم يعد مقاومة للعدو، كما نفهمها، بل مقاومة ضد الدولة. فالسلاح بات يُستخدم لفرض إرادة الحزب وتعطيل الاستحقاقات ومنع المساءلة. كل هذا لا يحمي البلد بل يدمّره من الداخل. ومن يبرر ذلك تحت شعار «الحفاظ على التوازن»، إنما يكرّس الانقسام وإضعاف الدولة.
 
لا أحد ضد الشيعة كطائفة. بل ضد أي مشروع يستخدم الطائفة درعاً للاستقواء على سائر اللبنانيين. المطلوب أن تكون الطائفة الشيعية شريكة في الدولة، كباقي الطوائف، لا رهينة لسلاحها، ولا خصماً لبقية المكوّنات.
 
المطلوب اليوم مصالحة شجاعة مع الذات. الإقرار أن لبنان لن ينهض طالما بقي سلاح خارج الدولة، وطالما ظلت الطائفة فوق القانون، والمقاومة – أو الحزب – فوق المحاسبة. الإصلاح الحقيقي يبدأ حين يصبح الجميع تحت سقف واحد: الدستور.
نريد وطناً لا مزرعة. قضاءً لا تسويات. نريد أن نعيش كمواطنين وليس كرعايا. أن نختلف من دون خوف، وننتقد من دون تخوين. أن نكون أصحاب قرار على أرضنا، لا متفرجين على قرارات تتخذ من محاور في العتمة وتُمرّر تحت شعارات مستهلكة.
 
الآن حان وقت المقاومة من أجل بناء الدولة، ومقاومة التبعية، والطائفية، والسلاح الخارج عن الدولة.
نريد لبناناً لا يحكمه منطق الساحات، بل منطق المؤسسات. لبنان يليق بأبنائه، ويوفر لهم مستقبلاً واعداً وعلى قدر أحلامهم لبقائهم.
 
أما مقولة «السلاح زينة الرجال»، الموجودة في ثقافتنا الشعبية، باعتبارها تعبيراً عن القوة والشجاعة والرجولة؛ فهي مقولة تنتمي إلى حقبة أخرى انطوت، كان يُنظر فيها إلى العنف كأداة مشروعة لحل النزاعات أو لإثبات الذات. أما اليوم، وبعد أن نشأت حساسية عالمية جديدة تُدين العنف وتدعو للحوار؛ فلم يعد التمسّك بهذه المقولة من قبيل الحنين للفروسية، بل من قبيل الترويج لمبدأٍ تجاوزه الزمن. أن السلاح خارج مؤسسات الدولة ليس زينة، بل تهديدٌ لسلامة المجتمعات وكرامة الإنسان.
 
آن أوان الاعتراف بالواقع، ومواجهة الحقيقة: لا دولة مع سلاح غير شرعي. لا كرامة في ظل خوف دائم. ولا حرية بلا مواطنة كاملة.
 
المصدر: جريدة اللواء اللبنانية
مشاركة هذا الموضوع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!
آخر الأخبار