سوريا تلوّح بالتصعيد ضد لبنان

سوريا تلوّح بالتصعيد ضد لبنان

واصل حميدة (المدن) – شهدت العلاقة السورية اللبنانية اليوم تصعيداً مفاجئاً تمثل بتصريحات غير مسبوقة صدرت عن الرئيس السوري أحمد الشرع، تجاه السلطات اللبنانية، على خلفية ما اعتبرته دمشق تجاهلاً متعمداً ومتكرراً لملف المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية، وفي مقدمتها سجن رومية سيئ الصيت.

مصادر سياسية مطلعة كشفت لموقع “تلفزيون سوريا” المقرب من الحكومة، أن الشرع وجّه تعليمات عاجلة لوزير الخارجية السورية أسعد الشيباني، بالتوجه إلى بيروت في الأيام القليلة المقبلة، محمّلاً بملف واحد يتقدّم على سائر الملفات: مصير السوريين المحتجزين داخل السجون اللبنانية، وضرورة الإفراج عنهم أو نقلهم وفق تفاهمات قانونية وسياسية واضحة. وأوضحت المصادر أن القيادة السورية المؤقتة تنظر إلى هذا الملف باعتباره اختباراً حقيقياً لجدية العلاقة بين البلدين في مرحلة ما بعد الأسد.

في السياق ذاته، كشفت المعلومات أن دمشق تدرس اتخاذ خطوات متدرجة قد تبدأ بتجميد بعض قنوات التعاون الأمني والاقتصادي مع لبنان، وإعادة تقييم العمل المشترك على الحدود، وصولاً إلى احتمال إغلاق بعض المعابر أو فرض قيود مشددة على حركة الشاحنات اللبنانية الداخلة إلى سوريا. وقد تصاعدت المخاوف من إغلاق كامل للمعابر البرية، بعد أن أقدم أهالٍ لمعتقلين سوريين على قطع طريق بعلبك-الهرمل عند معبر جوسية الحدودي، في رسالة رمزية تعكس عمق التوتر الشعبي.
 

امتصاص التوتر
في المقابل، سارعت وزارة الإعلام السورية إلى محاولة امتصاص التوتر، بنفي ما تم تداوله من أخبار عن وجود نية حكومية لاتخاذ إجراءات تصعيدية ضد لبنان، مؤكدة أن دمشق “تتمسك بضرورة معالجة ملف المعتقلين السوريين عبر القنوات الرسمية والدبلوماسية”.

هذا التصعيد السوري المفاجئ يأتي عقب أيام فقط من زيارة المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس باراك، إلى بيروت، حيث أدلى بتصريحات حملت في طياتها رسائل إقليمية دقيقة بشأن الدور السوري في لبنان، رغم تجنّبه الإشارة إليه بشكل مباشر. باراك، الذي بدا حريصاً على الإبقاء على خيوط التوازن الدقيقة بين جميع الأطراف، شدد خلال لقاءاته مع مسؤولين لبنانيين على أن استقرار لبنان لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الداخل، منبهاً إلى أن واشنطن لا تملي حلولاً، لكنها تتابع المشهد باهتمام بالغ، وتراهن على إصلاح العلاقات الإقليمية.

في إحدى تلك التصريحات، قال باراك إن لبنان وسوريا جزء من نسيج مشترك، وأن العالم يمنح البلدين الآن فرصة تاريخية للعبور نحو مرحلة جديدة من الاستقرار، بشرط أن تتوفر الإرادة السياسية. وقد ألمح إلى أن التقارب السوري اللبناني مطلوب وضروري، سواء لترسيم الحدود أو لضبط المعابر، أو لإعادة تشغيل عجلة التبادل الاقتصادي.

ورغم حرص باراك على إبقاء “حزب الله” ضمن إطار القضية اللبنانية الداخلية، فقد تطرّق إلى أهمية معالجة ملفه ضمن رؤية لبنانية جامعة، محذراً في الوقت ذاته من أن الفرص لا تنتظر طويلاً، في إشارة إلى ضرورة اتخاذ قرارات سيادية سريعة تواكب التحولات الإقليمية، ومن بينها التقارب بين دمشق وتل أبيب، ومسار التطبيع المتدرج الجاري منذ أسابيع في الكواليس.
 

توقيت التحرك
في هذا السياق، يرى محللون أن الشرع اختار التوقيت بعناية للضغط على بيروت في قضية المعتقلين، مستثمراً المناخ الإقليمي المتغير، والدعم الدولي المتزايد لحكومته الانتقالية. ويعتقد مراقبون أن الضغط السوري لا يقتصر على بعد إنساني أو حقوقي، بل يحمل أبعاداً سياسية عميقة، مفادها أن سوريا لم تعد تقبل بلعب دور الطرف الغائب في المعادلة اللبنانية، وأنها مستعدة لحماية مصالح مواطنيها بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك استخدام أدوات الردع الدبلوماسي والاقتصادي.

قضية سجن رومية باتت تمثل قنبلة موقوتة داخل العلاقة بين دمشق وبيروت. إذ تقول منظمات حقوقية إن المئات من السوريين لا يزالون محتجزين دون محاكمات عادلة أو توجيه تهم رسمية، وأن هناك حالات موثقة لتوقيفات تعسفية استمرت لسنوات دون مراجعة قضائية. وتتهم أطراف في دمشق بعض الجهات السياسية اللبنانية بتوظيف الملف كورقة مساومة في التوازنات الداخلية، ما يضاعف من غضب الشارع السوري، ويحرج الحكومة الانتقالية التي وعدت بتحقيق كرامة مواطنيها في الداخل والخارج.

ورغم النفي الرسمي لأي نية تصعيدية، فإن التحركات الشعبية على الأرض، والتصريحات المتسربة من دوائر صنع القرار السوري، تشير إلى أن المسألة دخلت طوراً جديداً من التوتر المحسوب، وأن الأيام المقبلة قد تحمل تغييرات في مستوى التعامل السوري

مع لبنان، خصوصاً إذا لم يحقق وزير الخارجية الشيباني اختراقاً واضحاً في زيارته المنتظرة.
في الوقت ذاته، تبدو الولايات المتحدة حريصة على بقاء قنوات الاتصال مفتوحة بين الطرفين، وتعمل على هندسة تسوية هادئة تعالج الملف من دون أن تنفجر العلاقة مجدداً أو تعود إلى زمن التوترات الأمنية.

ومع غياب موقف لبناني رسمي واضح إزاء ما يحدث، تبقى الأسئلة معلقة: هل تمضي دمشق فعلاً نحو خطوات تصعيدية؟ أم أن ما جرى اليوم لا يتعدى كونه رسالة ضغط محسوبة لتثبيت أوراق تفاوضية قبل الجلوس إلى الطاولة؟

ما حدث اليوم لا يمكن قراءته كمجرّد موجة غضب عابرة من دمشق، بل كمحاولة لإعادة ترسيم حدود العلاقة بين الجارين. الرئيس الشرع، الذي يسعى لترسيخ مكانته كفاعل إقليمي يحترم التوازنات لكنه لا يتنازل عن الكرامة السيادية، يستخدم ورقة المعتقلين كورقة أخلاقية، وإنسانية، وسياسية في آن معاً.

إذا استمر التجاهل اللبناني، فإن الحكومة السورية قد تجد نفسها مضطرة للمضي أبعد من التهديد، خصوصاً أن جمهورها الداخلي يتوقع تحركاً حازماً يعكس خطاب المرحلة الجديدة. أما إذا تجاوبت بيروت، فقد يكون هذا الملف مدخلاً لتفاهمات أوسع تشمل الحدود والاقتصاد وربما الأمن.

المصدر: “المدن”

مشاركة هذا الموضوع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!
آخر الأخبار